بصرف النظر عن الموقف الرسمي السويسري من حظر بناء المآذن، ثمة مشكلة ستواجه السلطات السويسرية لما لنتائج هذا الاستفتاء من ارتدادات وتداعيات على طبيعة العلاقة التي تحكم المجتمع السويسري منذ بدايات نشأته الأولى، لا سيما أن التركيبة السياسية الدستورية أتت لتراعي ظروفاً اجتماعية وعرقية وقومية معقدة.
وعلى الرغم من قلة المآذن المبنية فعليا وهي أربع لا غير، فإن في التدقيق في نتائج الاستفتاء الذي بلغ 57.5% دليلاً واضحاً حول نجاح الأحزاب اليمينية في شحن شريحة واسعة من المجتمع السويسري بشكل غرائزي تحريضي على أحد الرموز الدينية الإسلامية، واعتباره رمزاً يهدد التركيبة النفسية الاجتماعية للشعب السويسري.
التحدي الأكبر يكمن في التركيبة السكانية ليس لجهة الأعراق والقوميات فحسب، وإنما أيضاً لجهة الأديان، فبحسب الإحصاءات الحكومية الأخيرة ثمة أربعمائة ألف مسلم بينهم 50 ألف ملتزم بالشعائر الدينية، من أصل تعداد سكاني يبلغ 7.5 مليون نسمة، ما يجعل الإسلام الديانة الثانية بعد المسيحية في البلاد، الأمر الذي سيشكل حرجاً كبيراً للحكومة الفيدرالية السويسرية في التعاطي مع مثل هذا الموضوع الذي يشكل حساسية مفرطة، وبخاصة في ظل سوابق أوروبية أخرى مست مشاعر المسلمين وأدت إلى توترات سياسية واجتماعية واضحة في بلدان كبريطانيا والدنمارك وفرنسا وغيرها.
والمفارقة الأكثر غرابة في هذه القضية بالذات حجم معارضتها في بلد عُرف بحياده السياسي والقانوني في قارة مزقتها حروب دينية ومذهبية في القرون الماضية، فكانت نموذجا ومثالا يحتذى به للعديد من المجتمعات والدول التي تشهد توترات عرقية أو مذهبية دينية، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، كيف تمكنت القوى اليمينية من استقطاب هذه الشريحة الواسعة وكسب تأييدها في موضوع بمثل تلك الحساسية؟ وما هي الأسباب الحقيقية لذلك؟ أهي أسباب دعائية سياسية أم هو ميل سلوكي اجتماعي سياسي ضد الإسلام أو المسلمين؟ وبالتالي، هل أن الإسلام والمسلمين باتوا “فيروساً” سياسياً أو إرهابياً كما يحلو للبعض توصيفهم، وبالتالي وجوب التعامل مع الموضوع بأكثر جدية ورعاية وعناية؟
لقد عانت بعض الدول الأوروبية العديد من مظاهر العداء لبعض القوميات والإثنيات وحتى للعقائد والسياسات، وكانت أمراً مستهجناً حتى في مجتمعاتها وبيئاتها الطبيعية وتمكنت بسهولة من استيعاب وتجاوز تداعياتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر تنامي السلوك النازي في ألمانيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وكتلته، كذلك في النمسا وحتى في روسيا نفسها، لكن التداعيات كانت بمعظمها تعبيراً عن عدم الرضا والاعتراض على وقائع اجتماعية اقتصادية أو حتى قومية عرقية، ولم تكن على سبيل المثال دينية أو مذهبية.
ربما نجحت الأحزاب اليمينية المتطرفة في غير مكان من الدول في جعل الإسلام في عقول الغربيين، مرتعاً لخيال خصب قوامه الإرهاب والتطرف، لكن الأخطر في الموضوع هو الانتقال من لصق الإرهاب والتطرف والتشدد من المسلمين كأفراد وجماعات إلى الدين ورموزه وشعائره ودلالاته، فمن الآيات الشيطانية إلى الصور الكاريكاتيرية، إلى المآذن، علاوة على الحجاب وحتى الأسماء، وصولاً إلى محاكمة النيات، لا يعرف المسلم ماذا ينتظره، كما لا يعرف كيف سيكون رد فعله . مجموعة هائلة من الأسئلة التي لا تنتهي فصولاً.
إن رفض أربعة كانتونات من أصل ستة وعشرين كانتوناً، سيؤدي إلى تعديل المادة 72 من الدستور السويسري التي تحكم العلاقات بين الدولة والديانات. وسيدرج حظر بناء مآذن في الدستور على أنه إجراء “يرمي إلى الحفاظ على السلام بين أفراد مختلف المجموعات الدينية”، فهل سيكون هذا الإجراء القادم على المجتمع السويسري إجراء موفقاً أم سيكون مقدمة لأمور أخرى لم تكن في الحسبان كما جرى في العديد من الدول الأوروبية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، أي كما جرى في يوغسلافيا وتشيك سلوفاكيا وغيرهما.
إن انقلاب نتائج الاستطلاعات حول هذا الموضوع لهو مؤشر لافت ومخيف في آن، فقبل الاستفتاء أظهرت نتائج الاستطلاعات أن 53% سيكون ضد هذا الإجراء، فلماذا أتت نتيجة الاستطلاع معاكسة تماماً، أهو دليل آخر على سرعة تأثر السويسري بالدعايات والإعلانات بصرف النظر عن صحتها أو دقتها؟ فعلاً إنه أمر محير، وهذا ما يزيد الخوف من التداعيات المستقبلية في بلد حاول الحفاظ على حياده وسط أعاصير عاتية في قرون ماضية.
فهل ستتمكن بعض الأحزاب، كحزب الخضر من الطعن بالنتيجة أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورج لما يُعتبر انتهاكاً للحرية الدينية التي كفلتها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان؟ وإذا كان الأمر ممكنا فكيف ستؤول الأمور؟ وهل سيمر هذا الإجراء بأقل الخسائر الممكنة في مجتمع معقد التركيبة الاجتماعية والسياسية وحتى الدستورية؟
لا شك ثمة أزمة كبيرة ومعقدة بين المجتمعات الغربية والمسلمين إن كانوا خارجها أم داخلها، والمشكلة الأكبر تبرز في غياب صوت العقل والكلمة والحوار لجلاء ما هو غير واضح أو دخيل على العلاقة المفترضة بين الأديان والحضارات والثقافات، كما ينبغي عدم دفن الرؤوس في الرمال بهدف التنصل من المسؤولية أو إحالتها على الغير، ثمة ضرورة ملحة بل أمر وشرط واجب لتصحيح الاعوجاج القائم نتحمله نحن العرب والمسلمين قبل غيرنا لدرء المخاطر عنا وعن عقائدنا ومفاهيمنا وتقاليدنا.
لقد خُلع على سويسرا لقب الريادة في السرية المصرفية، فنجحت بل برعت في الاحتفاظ بمخازن الأموال العربية والإسلامية، فهل ستتمكن من تجاوز أزمة المآذن لتحافظ على الخزائن؟ إنه سؤال محيّر، لن يعرف غير السويسريين الإجابة عنه بوضوح.
منقول من إسلام أون لاين... للكاتب خليل حسن