تؤكد اغلب المصادر في مدينة درنة أن السيدة ( مفيدة الخوجة ) هي أول من حمل مشعل التعليم النسائي بداية عام 1926م ، وكلمة خوجة تعني باللغة التركية المعلم أو المعلمة ، كما عرفت أيضاً باسم ( مفيدة بن فايد ) نسبة إلى زوجها الثاني المرحوم السيد ( محمد بن فايد ) الذي شجعها وقدَّم لها يد العون لنشر العلم والمعرفة بين بنات المدينة ، والسيد ( محمد عبد القادر بن فايد ) أحد أبناء مدينة درنة الذي تعلَّم في أواخر العهد العثماني في المدرسة ( الرشيدية ) ثم واصل تعليمه في ( استنبول ) إلى أن تخرج من إحدى مدارسها وتولى العديد من الوظائف منها
قائمقام ( الموصل ) ثم ( الكرك ) بالأردن فـ( عجلون ) بفلسطين ثم عيَّن رئيساً لمكتب التجنيد الإلزامي باستنبول ثم وكيل مديرية معارف بنغازي ثم شارك مع ( أحمد الشريف ) و ( أنور باشا )
في معارك الجهاد ضد الغزو الإيطالي ن كذلك كان رئيساً لـ( لجنة الدفاع عن فلسطين بدرنة ) كما كان قاضياً بالمحاكم الأهلية ورئيساً لرابطة الشباب ولرابطة الأشراف بالمدينة.
أما السيدة ( مفيدة كارلوان الخوجة ) فهي من مواليد حلب عام 1892م تلقّت تعليمها في بلادها سوريا وشاركت في مظاهرات الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي ، وتزوجت من المرحوم عبد الله الشويهدي من بنغازي الذي كان مهاجراً إلى سوريا آنذاك ثم عاد إلى بلده فجاءت بصحبته وقدم معها ليقيما بدرنة ، ولكن بعد تسعة أشهر توفي زوجها فاتصلت بالمرحوم ( حمد صوَّان ) أحد وجهاء المدينة ليسهل لها مهمة العودة على بلادها ، واتصل بدوره بالمرحوم ( محمد بن فايد )
ليساعده في ذلك ، ولكن بإرادة الله تمت بزواجها منه ، وكانت تجيد اللغة الفرنسية إلى جانب إلمامها بالتركية واليونانية وتعلمت الإيطالية والإنجليزية عندما استقرت بدرنة ، وكانت بشهادة عارفيها متدينة صوَّامة قوَّامة تشارك في الأعمال الخيرية والتطوعية ومنها مساهمتها الفعَّالة في حملة جمع التبرعات لصالح القضية الفلسطينية عام 1948م .. وقد توفيت في الأراضي المقدسة عام 1952م .. بعد أدائها مناسك الحج كما كانت تسأل الله تعالى دائماً في دعائها.
ولنا أن نتصور – في تلك الفترة – وضع المرأة الليبية في مجتمعنا وقد تعاقبت عليها ظلمات الجهل والتخلف والفقر وهي ترزح جيلاً بعد جيل تحت وطأة الحكم العثماني في مرحلة نهايته وانحداره. وأعقب ذلك العهد عهداً أشد خطراً وقتامةً وقهراً وهو الاستعمار الإيطالي ، حدث كل ذلك في بلد فقير الموارد تجتاحه سنوات الجدب وتزحف رمال الصحراء على مناطقه الخضراء الضيقة المساحة على سواحله وبعض واحاته ، فكانت المجاعات والإمراض والأوبئة وحرب الإبادة الشاملة التي شنتها إيطاليا الفاشية بإمكاناتها الهائلة على شعبنا بسبب مقاومته وشجاعته الباسلة في الذود عن تراب وطنه ، كل تلك الأوضاع صبغت حياة بلدنا بالروح المأساوية وليلها الطويل القاتم ، وعلاوة على سوداوية هذه الصورة لحياة الناس في بلادنا في تلك الفترة فقد كانت مأساة المرأة أكثر تعقيداً ومرارة – خصوصاً في المدن – فقد ساد مفهوم العقلية التركية المتخلفة لدى الرجل الليبي في نظرته إلى المرأة فهي أقرب لان تكون من الحريم والجواري تقبع وراء الجدران مسلوبة الإرادة ، ممنوعة من الخروج فمن بيت أهلها إلى بيت زوجها وأخيراً إلى قبرها .. فلا حق لها في اختيار زوجها ولا فرصة لها في تعليم أو عمل ، أنها مقهورة مملوكة للرجل أباً وأخاً وزوجاً وسيداً ، سلبتها قسوة التقاليد وسطوتها كل إنسانيتها وحقوقها الصريحة التي منحها إياها ديننا الإسلامي الحنيف ، وحتى لو فكر احدهم أن يتساهل في معاملتها فأنه يجلب العار لنفسه باحتقار المجتمع له وسخريته منه.
في هذا الجو الحالك الظلمة أوقدت السيدة ( مفيدة الخوجة ) سراجها في ليل المرأة الطويل في هذه المدينة وبتشجيع من زوجها المثقف المستنير السيد ( محمد بن فايد ) قياساً على عصره وبإحساس صادق منها بالواجب الذي يرقى إلى درجة الجهاد في هذا الميدان ، وفي عام 1926م فتحت أول فصل دراسي لتعليم البنات في مبنى بشارع الفنار – مدرسة النصر حالياً – والذي كان مخصصاً لفرق فتيان الفاشيست وهم أولاد من العرب الليبيون يتم حينها تربيتهم وإعدادهم على مبادئ الفاشيست بعد إفراغهم من محتواهم الوطني والقومي والديني ..
بدأت الخطوة الأولى في تعليم المرأة بدرنة بمجموعة من الطالبات لأول فصل دراسي وهن :
1- فتحية قدور
2- غالية بوغرارة
3- خيرية الثلثي
4- مبروكة ابحيري
5- نفيسة الجاضرة
6- حميدة صوَّان
7- غزالة الطيب النويصري
8- مبروكة بوغرارة
9- حلَّوم مكراز
10- مريم اكريكش
11- جميلة صوَّان
12- خديجة اكسينده
13- مبروكة الجاضرة
14- عدوية بوخطوة
أما المنهج الدراسي لذلك الفصل فيتكون من أربع مواد تدرس اثنتان منها بالعربية هما مادة الدين ومبادئ اللغة العربية ، واثنتان باللغة الإيطالية وهما الحساب ومبادئ اللغة الإيطالية قراءة وكتابة .. وكانت السيدة مفيدة تقوم وحدها بتدريس هذه المواد ، إضافة إلى التطريز والخياطة وتختص بها مدرسة إيطالية مع وجود حصة الرياضة وقد تم توزيع كتابين مطبوعين باللغة الإيطالية في مادتي الحساب والمطالعة.
وفي نهاية العام الدراسي كان يتم إجراء الامتحان التحريري في المواد النظرية باستثناء مادة الدين فامتحانها شفوي يقوم بإجرائه العالم الأزهري الشيخ ( عبد الكريم عزوز ) قاضي درنة الشرعي آنذاك وهو ما يؤكد أن هذا العالم الجليل لم يكن متزمتاً بل كان مستنيراً ، ولا شك أن هذا الموقف التنويري شكل دافعاً قوياً لأولياء الأمور لاختراق حاجز التقاليد البالية التي سادت في تلك الفترة ، ورغم أن نظافة الهندام كانت شرطاً أساسياً إلا انه لم يكن هناك أي زي مفروض على الطالبات فكن يرتدين الزي الشعبي ، وكذلك الحقائب حسب ظروف كل واحدة منهن كما كن يحضرن فطورهن من البيوت .. كذلك كانت للمدرسة نشاطها الموسيقي والترفيهي في الفترة بعد عام 1931م.
ونعود للسيدة مفيدة الخوجة فهي لم تتوقف عن أداء رسالتها التعليمية والتربوية لبنات جنسها فبعد إغلاق المدرسة عام 1940 بسبب الحرب العالمية الثانية تبرع زوجها المرحوم السيد ( محمد بن فايد ) بفتح بيت له يقع خلف أضرحة الصحابة في حي بومنصور ليكون مقراً للمدرسة الخاصة التي فتحتها هذه السيدة الفاضلة إلى جانب ثلاث معلمات هن : غزالة النويصري – التي درست التمريض بطرابلس – لكنها اختارت مهنة التعليم وكذلك المعلمة ( لطيفة كلفه وفاطمة ابحيري آغا ) وهي تركية عملت كمعلمة نسيج وخياطة ، وظلت هذه المدرسة قائمة لمدة ثلاث سنوات حتى نهاية الحرب .. وفي عام 1943م وتحت إلحاح المجلس البلدي بدرنة ورجال التعليم البارزين أمثال الأساتذة : عبد الكريم جبريل – وعبد الرحيم لياس – و محمود دربي وغيرهم سمحت السلطات البريطانية بافتتاح مدرسة درنة للبنات بميدان البلدية وكانت تسمى ( مدرسة الميدان ) وتوَّلت إداراتها وبكفاءة يشهد لها الجميع السيدة ( مفيدة الخوجة ) خلال العام الدراسي 43-1944م وتكونت هيئة التدريس من الأخوات المعلمات : فتحية شنيب – صالحة افتيتة – ابتسام شنيب – زينب اجعوده – غائبة التوام وهي سورية .. وكان المنهج المقرر في المدرسة هو المنهج المصري باستثناء مادتي التاريخ والجغرافيا وكانت وجبة الإفطار مكونة من الحليب والخبز والشاي والحلوى الطحينية والعسل أما الأدوات المدرسية والكتب فكانت توزع مجاناً.
وبحلول عام 44-1945م ونتيجة لخلاف بين السيدة مفيدة واحد رجال التعليم في تلك الفترة ، استقالت من مهامها التعليمية ولزمت بيتها إلى أن توفيت إلى رحمة الله بمكة المكرمة عام 1952م أثناء موسم الحج .. رحم الله المعلمة الفاضلة السيدة مفيدة الخوجة التي أنارت لذلك الجيل من أمهاتنا وأخواتنا طريق العلم والمعرفة ومعانقة الحروف والكلمات لتأخذ المرأة حظها الوافر وحقها في الحياة الكريمة معلمة وطبيبة ومحامية يداً بيد بجانب أخيها وأبيها وزوجها وأبنها.
مصدر المقال : كتاب الزهراء ومسيرة نصف قرن
إعداد مجموعة من الكتاب بدرنة
طبع مطابع الثورة / بنغازي 1997